إلى بغداد :
وحينما انتقل المأمون العباسي إلى بغداد ، وكان يعيش في صراع دائم مع
العباسيين الذين استنكروا عليه إعطائه ولاية العهد للرضا (ع) ، مذكرين له أن هؤلاء بني فاطمة هم المناوئون الذين يخشى جانبهم أكثر من أي مناوئ آخر لأن لهم أنصاراً وموالين في شرق البلاد وغربها .
وكان المأمون يبرر موقفه من علي بن موسى بنقل فضائله التي عجزت شفاه المأمون وغيره عن أن تحصيها عداً قائلاً : بأن أهل هذا البيت قد ورثوا العلم من آبائهم كما ورثوا المكارم والخلق الرفيع .
وكانت الشيعة يومئذ قد قويت شوكتهم بالإمام الرضا وأصبح لهم دعاة مخلصون في كل زاوية من البلاد الإسلامية ومالت إليهم العامة لما ظهر من الإمام الرضا (ع) في المسرح السياسي من آيات الفضل والكمال .
ثم إنه ذهبت دعوتهم إلى إمامة بني فاطمة تنتشر أكثر من أي يوم آخر ، لأن كثيراً منهم نالوا المناصب الرفيعة في الدولة وقاموا بحركات إيجابية دائمة بسبب الإختلاف الذي وقع بين العباسيين .. وعرفت السلطة طوائف كثيرة من العباسيين أنفسهم كانوا يكيدون للدولة ويريدون لأنفسهم السلطان فاضطرت إلى استخدام مناوئ هؤلاء ، من الشيعة .
هذا من جانب ومن جانب آخر كانت موجة من الاستياء العام تمثل العامة بسبب قتل المأمون للرضا (ع) . وتغطية لغدره بالرضا (ع) واحتجاجاً على الخاصة من العباسيين .. واستمالة لفؤاد العامة من غيرهم ، أرسل المأمون إلى المدينة يطلب الإمام الجواد (ع) في دعوة رسمية . .
كان ذلك في السنة ( 211) هجرية حيث كان لأبي جعفر الجواد من العمر زهاء ( 16) سنة فقط .
ومما يبدو من التاريخ : أن وفود الإمام (ع) كان حافلاً بالاحتفاء الملوكي ... الذي هيأه الخليفة لمقدم موفوده المبارك .
وكان الناس يبشرون أنفسهم بابن الرضا (ع) الذي طالما تشوقوا إلى رؤيته والمثول عنده .
واستقبله المأمون استقبالاً حافلاً ، ونوى أن يزوجه ابنته أم الفضل ، كما زوج أباه الرضا (ع) ابنته أم حبيب .
فاعترضه العباسيون اعتراضاً شديداً ، خوفاً من انتقال الخلافة إلى بني فاطمة .
فاجتمع من أهل بيته الأدنون وقالوا له : نناشدك اللـه يا أمير المؤمنين ألا تقدم على هذا الأمر الذي عزمت من تزويج ابن الرضا (ع) ، فإنّا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملكنا اللـه عزَّ وجلَّ ، وينزع منا عزّاً قد ألبسناه اللـه ، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً ، وقد كنا في خشية من عملك مع الرضا (ع) ، فكفانا اللـه المهم في ذلك ، فاللـه أن تردنا إلى غم قد انحسر عنا .
فقال لهم المامون : أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم، واما ما كان يفعله من قبلي بهم فقد كان قاطعاً للرحم ، وأعوذ باللـه من ذلك ، واللـه ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا (ع) .. ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى وكان أمر اللـه قدراً مقدوراً !!
وأما أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتفوِّقه على أهل الفضل كافة في العلم والثقافة مع صغر سنه .
وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فتعلمون أن الرأي ما رأيت فيه .
فقالوا : إن هذا الفتى وإن راقك منه هديه فإنه صبي لا معرفة له ولا فقه ، فأمهله ليتأدَّب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك .
فقال لهم : ويحكم إني أعرف بهذا الفتى منكم ، وإن أهل هذا البيت علمهم من اللـه تعالى لم يزل أباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة ، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يثبت لكم به ذلك .
قالوا : قد رضينا بذلك فخلِّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيْ ، من فقه الشريعة فإن أصاب لم يكن لنا اعتراض ، وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين فيه ، فإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب منه ، فرضي المأمون بذلك ، فاجتمع رأيهم على يحيى بن أكثم قاضي قضاة الديار الإسلامية في ذلك العهد أن يسأل الإمام الجواد (ع) عن المسائل الغامضة في الفقه الإسلامي ، وحان الموعد واجتمع الناس ، وجاء الإمام الجواد ( (ع) ) وحضر ابن أكثم ، وجلس يحيى بين يديه والمأمون بجانب الإمام يهيمن على المجلس ، فالتفت ابن أكثم إلى الخليفة وقال :
يأذن لي أمـير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر عن مسألة ؟ فقال المأمون استأذنه في ذلك ، فأقبل عليه يحيى قائلاً : جعلت فداك ، تأذن لي في مسألة ؟ قال أبو جعفر (ع) : سل ما شئت .
قال يحيى : ما تقول - جعلت فداك - في محرم قتل صيداً ؟
فقال أبو جعفر :
- قتله في حل أو حرم ؟
- عالماً كان المحرم أو جاهلاً ؟
- قتله عمداً أو خطأً ؟
- حُرَّاً كان المحرم أو عبداً ؟
- صغيراً كان أو كبيراً ؟
- مبتدئاً بالقتل أو معيداً ؟
- من ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها ؟
- من صغار الصيد أم من كبارها ؟
- مصرّاً على ما فعل أو نادماً ؟
- في الليل كان قتله للصيد أم في النهار ؟
- محرماً كان بالعمرة إذ قتله ، أم بالحج كان محرماً ؟ (7) .
فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والإنقطاع ولجلج حتى عرف الحاضرون امره ، فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ، ثم توجه إلى أهل بيته ، فقال لهم : أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ؟ ثم أقبل على أبي جعفر (ع) فقال له : أتخطب يا أبا جعفر ؟ فقال : نعم يا أمير المؤمنين، فقال له المأمون : أخطب لنفسك جعلت فداك ، قد رضيتك لنفسي وأنا مزوجك أم الفضل ابنتي ، وإن رغم قوم لذلك .
فقال أبو جعفر : الحمد لله إقراراً بنعمته ولا إله إلاّ اللـه إخلاصاً لوحدانيته وصلى اللـه على محمد سيد بريَّته والأصفياء من عترته ... أما بعد : فقد كان من فضل اللـه على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام ، فقال سبحانه : { وَأَنكِحُوا الاَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآئِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللـه مِن فَضْلِهِ وَاللـه وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (النُّور/32)
ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد اللـه المأمون ، وقد بذل لـها مـن الصـداق مهـر جـدته فاطمـة بنـت محمـد (ص) ، وهو خمسمائة درهم جياداً ، فهل زوجته يا أمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور ؟
فقال المأمون : نعم قد زوجتك يا أبا جعفر أم الفضل ابنتي على الصداق المذكور ، فهل قبلت النكاح ، قال أبو جعفر (ع) : قد قبلت ذلك ورضيت به .