حفلة الزواج :
قال المحدث : ولم نلبث أن سمعنا أصواتاً تشبه أصوات الملاَّحين في محاوراتهم ، فإذا الخدم يجرون سفينة مصنوعة من فضلة مشدودة بالحبال من الإبريسم على عجلة مملوءة من الغالية ( قسم من العطــر ) ، فأمر المأمون أن تخضب لحاء الخاصة من تلك الغالية ، ثم مدت إلى الدار العامة فتطيبوا منها ووضعت الموائد فأكل الناس وخرجت الجوائز إلى كل قوم على قدرهم ، فلما تفرق الناس وبقي بعض الخاصة ، قال المأمون لأبي جعفر (ع) : إن رأيت جعلت فداك أن نذكر الفقه الذي فصلته من وجوه من قتل الصيد ، فقال أبو جعفر (ع) :
نعم ، إن المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير ، وكان من كبارها فعليه شاة ، فإن أصابه في الحرم فعليه جزاءً الضعف ، وإذا قتل فرخاً في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن ، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ ، فإذا كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة ، وإن كان نعلماً فعليه بدنة ، وإن كان ظبياً فعليه شاة ، وإن كان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه جزاءً مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة ، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه بالحج نحره بمنى ، وإن كان أحرامه بالعمرة نحره بمكة ، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء وفي العمد عليه المأثم ، وهو موضوع عنه في الخطأ والكفارة على الحر في نفسه ، وعلى السيد في عبده ، والصغير لا كفارة عليه ، وهي على الكبير واجبة ، والنادم يسقط بندمه عنه عقاب الآخرة ، والمصّر يجب عليه العقاب في الآخرة .
فقـــال المامون : أحسنت يا أبا جعفر ، أحسن اللـه إليك ، فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك ، فقال أبو جعفر (ع) ليحيى : أسألك ؟ قال : ذلك إليك - جعلـت فداك - فإن عرفت جواب ما تسألني عنه ، وإلاّ استفدته منك ، فقال له أبو جعفر (ع) : أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار ، فكان نظره إليها حراماً عليه ، فلما ارتفع النهار حلت له ، فلما زالت الشمس حرمت عليه ، فلما كان وقت العصر حلت له ، فلما غربت الشمس حرمت عليه ، فلما دخل وقت العشاء الآخرة حلت له ، فلما كان وقت انتصاف الليل حرمت عليه ، فلما طلع الفجر حلت له ، فما حال هذه المرأة ، وبماذا حلت له وحرمت عليه ؟
فقال له يحيى : لا واللـه لا أهتـدي إلى جـواب هذا السؤال ، ولا أعرف الوجه فيه ، فإن رأيتك أن تفيدنا .
فقال أبو جعفر : هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه ، فلما ارتفع النهار أبتاعها من مولاها فحلت له ، فلما كان عند الظهر اعتقها فحرمت عليه ، فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له ، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه ، فلما كان وقت العشاء الآخرة كفَّر عن الظهار فحلت له ، فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت عليه ، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له .
فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم : هل فيكم من يجيب هذه المسألة بمثل هذا الجواب أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال ؟
قالوا : لا واللـه ، إن أمير المؤمنين أعلم ، وما رأى .
فقال : ويحكم ، إن أهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من الفضل ، وإن صغر السن فيهم ، لا يمنعهم من الكمال ، أما علمتم أن رسول اللـه (ص) افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وهو ابن عشر سنين ، وقبل منه الإسلام ، وحكم له به ، ولم يدع أحداً في سنه غيره ، وبايع الحسن والحسين (ع) وهما ابنان دون الست سنين ، ولم يبايع صبياً غيرهما ، أولا تعلمون ما اختص اللـه به هؤلاء القوم ؟ وإنهم ذرية بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجري لأولهم .
فقالوا : صدقت يا أمير المؤمنين ، ثم نهض القوم .
الجوائز :
فلما كان من الغد أحضر الناس ، وحضر أبو جعفر (ع) ، وسار القواد والحجاب والخاصة والعمال لتهنئة المأمون وابي جعفر (ع) ، فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة فيها بنادق (
مسك زعفران معجون ، في أجواف تلك البنادق رقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنية وإقطاعات (9) فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصته ، فكان كل من وقعت في يده بندقة أخرج الرقعة التي فيها ، والتمسه فأطلق يده له .
ووضعت البدر ، فنثرت ما فيها على القواد وغيرهم ( من كبار الموظفين ) وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا ، وتقدم المأمون بالصدقة على المساكين كافة ، ولم يزل مكرماً لأبي جعفر (ع) ، معظماً لقدره مدة حياته ، يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته (10).
وحينما تم زواج الإمام بابنة المأمون ، وبقي في بغداد مدة غير قليلة ناعماً مرفهاً يأتيه المسلمون ، فينهلون من فيضه ، ويستقون غمائمه ، ما تغنيهم وترويهم ، بيد أنه لم يكن يرضيه التنعم في قصور العباسيين تاركاً أمور الشيعة والمسلمين الدينية وراءه ظهريّاً ، وكما يبدو أنه إن لم يكن قد أكرهته الظروف بالمقام في بغداد ، لما أقام فيها إلاّ قليلاً .
يروي بعض أصحابه فيقول : دخلت عليه في بغداد ففكرت فيما به من نعم ، وقلت في نفسي إن هذا الرجل لا يرجع إلى موطنه أبداً ، فأطرق رأسه ثم رفعه وقد اصفر لونه ، فقال : يا حسين خبز شعير وملح جريش في حرم رسول اللـه أحب إلي مما تراني فيه (11) .
إلى المدينة من جديد :
وسار إلى المدينة عن طريق الكوفة ، فلما أن ورد الكوفة اجتمع إليه الشيعة ، فاستقبلوه استقبالاً حافــــلاً ، ثم ودعهم إلى مدينة جده ، حيث بقي فيها سائر أيام حياته يواصل أداء مسؤولياته الخطيرة التي منها إنشاء مدرسة فكرية جامعة حتى وفاة المأمون العباسي .
بعد المأمون :
وأوصى المأمون إلى أخيه المعتصم العباسي ولبى دعوة ربه فمات في قرية من نواحي طرسوس ، التي كانت من الحدود الفاصلة بين البلاد الإسلامية وبلاد الروم وكانت قد اشتعلت فيها مناوشات وقد سار إليها الخليفة بنفسه حتى ظفر المسلمون .
وأوصى إليه بشأن العلويين بصورة خاصة فقال مخاطباً أخاه المعتصم : هؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين علي (ع) فأحسن صحبتهم وتجاوز عن مسيئهم وأقبل عليهم ولا تترك صِلاتهم في كل سنة عن محلها فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى .
في أواخر الصيف ، ليلة الثاني عشر من رجب سنة 218 هـ توفي المأمون العباسي ودفن في ضاحية طرسوس ، فأخذ المعتصم أزمّة الحكم ، وراح يثبت حكمه بكل قدر مستطاع ففكر في أن الإمام الجواد وهو صهر الخليفة الراحل وسيد الشيعة وهم قوة جبارة في الأمة ، قد يشكل خطراً ما علـى الدولة فأشخصـه من المدينة إلى بغداد ، لا لشيء إلاّ لكي يكون الإمام تحت مراقبته الشخصية ، ونزح الإمام للمرة الثانية إلى بغداد ، وبقي فيها مبتعداً عن البلاط الملكي مشتغلاً بالشؤون العامة وذلك في الفترة ما بين ( 28 محرم الحرام سنة 220 هـ و 29 ذي القعدة الحرام من نفس السنة ) حيث وافته المنية بسم دس إليه من قبل السلطة بإشارة من الخليفة المعتصم باللـه ، وقصة ذلك حسب ما رواها المؤلف القدير العياشي عن خادم ابن أبي داود وصاحب سره الذي كان يسمى ( ونان ) ، وابن أبي داود هذا كان قاضياً شهيراً في بغداد قال : رجع ابن أبي داود ذات يوم من عند المعتصم وهو مغموم فقلت له فيما ذاك ، قال : لِما كان اليوم من هذا الأسود “ أي أبي جعفر الجواد (ع) “ بين يدي أمير المؤمنين ، قال قلت وكيف ذاك ؟ قال : إن سارقاً أقر على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره فجمع في ذلك الفقهاء وقد أحضر محمد بن علي (ع) فسألنا عن القطع في أي موضع ؟ فقلت من الكرسوع ( أي المفصل بين الكف والذراع ) ، قال : وما الحجـة في ذلك ؟ قلت : لأن اليد من الأصابع إلى الكرسوع لقوله تعالى في التيمم { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِنْهُ } (المائدة/6)
واتفق معي على ذلك جماعة ، وقال آخرون بل يجب القطع من المرفق لأن اللـه تعالى يقول في الوضوء { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } فدلّ على أن اليد من المرفق ، فالتفت المعتصم إلى محمد بن علي (ع) وقال : ما تقــــول أنت يا أبا جعفر (ع) فقال (ع) : قد تكلم فيه القوم يا أمير المؤمنين ، قال : دعني عما تكلموا بــه ، أي شيء عندك ؟ قال : اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين ، قال : أقسمت عليك باللـه تعالى لما أخبرت بما عندك فيه ؟ فقال : أما إذا أقسمت علي باللـه فإني أقول أنهم اخطأوا فيه السنَّة ، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف ، فقال : فما الحجة في ذلك ؟
قال : قول رسول اللـه (ص) السجود على سبعة أعضاء الوجه واليدين والركبتين والرجلين ، فإذا قطعت يــده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقد قال اللـه عزّ وجلّ : { وإنَّ المَساجِدَ للّــه } يعني بهذه الاعظاء السبعة التي يسجد عليها وما كان لله لـم يقطع .
قال : فأعجب المعتصم بذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف .
( قال ابن أبي داود ) فقامت قيامتي وتمنيت أني لم أكُ حيّاً ، ( قال ) : ثم صرت إلى المعتصم بعد ثلاث وقلت : إن نصيحة أمير المؤمنين واجبة وأنا أكلمه بما أعلم أني أدخل النار به ، قال وما هو ؟ قلت إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر وقع من أمور الدين وسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم ، وقد حضر مجلسه قوّاده ووزراؤه وكتّابه ، وقد تسامع الناس ذلك من وراء بابه ، ثم يترك أقاويلهم كلهم ، لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته ، ويدّعون أنه أولى منه بمقامه ، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء !! ( قال ) فتغير لونه وتَنبه لما نبهته له ، قال : جزاك اللـه عن نصيحتك خيراً . قـــــال : فأمر في اليوم الرابع فلاناً - بالطبع ، ذكر اسماً حذفه بعض المؤلفين أو الرواة - من كتَّاب وزرائـه ، أن يدعو الجواد (ع) إلى منزله فدعاه فأبى أن يجيبه وقال : لقد علمت أني لا أحضر مجالسكم ، فقال : إنما أدعوك الى الطعام وأحب أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرك بذلك ، فقد أحب فلان ابن فلان من وزراء الخليفة لقاءك ، فصار إليه ( ودسَّ إليه السم في الطعام ) فلما طعم (ع) أحس بالسم ، فدعى بدابته فسأله رب المنزل أن يقيم، فقال: خروجي من منزلك خير لك فلم يزل يومه ذاك وليلته يجود بنفسـه
والسمَّ يسري في بدنه حتى قبض (ع) .
آه ، إمام الحق ، هذا جزاؤك بعد كل هذا أنك لم ترِم لهم إلاّ الخير ، ولم يبغوا لك إلاّ الشر فسقياً لك ورعياً ، وتعساً لهم وويلاً ، غدُر واللـه ومكّر واللـه إن يطعموك السم وأنت في ربيع أيامك ، ولكن لك في الأولين من آبائك أسوة حسنة ، ولهم في الأولين من آبائهم أسوة سيئة فعليك السلام وعليهم اللعنة والعذاب .
نعم ، انطفأ ذلك المشعل الوهاج وخلَّف وراءه الأمة الإسلامية تجّر حسراتها
تندبه كالأرض تنتدب بعد مغيب الشمس .
لقد كان الإمام الجواد (ع) أحدث الأئمة الإثني عشر سناً باستثناء الإمام الحجة (ع) حين انتقلت إليه الخلافة الروحية في آخر صفر من سنة 202 - وهو ابن سبع وكان أحدثهم سناً على الإطلاق ، فحينما استشهد في آخر ( ذي القعدة سنة 220 من الهجرة ) وكان عمره آنذاك خمسة وعشرين ربيعاً كما كانت مدة إمامته ثماني عشرة سنة .
وضجت بغداد بوفاة ابن الرضا (ع) وذهبت الشكوك تحوم حول البلاط وكادت تتفجر ثورة عارمة على الحكم الجائر ، وصلى عليه ابن المعتصم وولي عهده الواثق باللـه كما صلـى عليـه نجله الكريم الإمام علي بن محمد النقي (ع) ودفن في مرقده في الكاظمية حيث لا يزال يُقصد ويُزار ، فعلى محمد بن علي الجواد (ع) التحية والسلام .
وجاء في بعض الأحاديث عن وفاته (ع) أن المعتصم دعى بعض وزرائه وأمرهم بأن يشهدوا على محمد بن علي الجواد (ع) بأنه قد أراد أن يخرج عليه بثورة يفجرها مع تابعيه من الشيعة الإمامية ذلك لكي يسهل عليه أن يلقي به في السجن أو يقتله قتلاً .
فلما أحضر الإمام التفت المعتصم إليه قائلاً : انك اردت أن تخرج عليّ ، فقال الامام : واللـه ما فعلت شيئاً من ذلك ، قال : إن فلاناً وفلاناً شهدوا عليك ، فأحضروا فقالوا : نعم هذه الكتب أخذناها من بعض غلمانك قال : وكان جالساً في بهو ( قاعة في مقدم الدار ) فرفع أبو جعفر يده وقال : اللـهم إن كانوا كذبوا عليً فخذهم .
قال الراوي : فنظرنا إلى ذلك البهو كيف يرجف ويذهب ويجئ وكلما قام واحدٌ وقع .
فقال المعتصم : يابن رسول اللـه إني تائب مما فعلت فادع ربك أن يسكنه ، فقال : اللـهم سكّنه إنك تعلم أنهم أعداؤك وأعدائي ، فسكن (12).