تركت دلال حبات مسبحتها تتحرك بهدوء الواحدة تلو الاخرى وهي تنظر الى الافق البعيد وكأنها تسترجع ذكريات ماض مليء بالذكريات الحزينة.
وقالت لـ(أصوات العراق) "تمت خطبتي على ابن عمي سمير عندما كنا في العشرينات من عمرنا وبعدها بأسبوع اندلعت الحرب العراقية الايرانية ليصاب سمير بشظية في القلب ويستشهد."
وأضافت وقد اغرورقت عيناها بالدموع "لقد مر على إستشهاده 22 عاما وأصبح عمري الان 45 عاما ولم ولن انساه."
ولكن دلال ليست العراقية الوحيدة التى فاتها قطار الزواج ووصلت إلى مرحلة "العنوسة" والتي يرى كثيرون أنها أصبحت ظاهرة اجتماعية منتشرة بقوة في العراق قد يكون أحد أسبابها الحروب التي شهدتها البلاد على مدار العقود الثلاثة الماضية.
أما ابتسام خالد الحاصلة على درجة الماجستير في الاعلام وتبلغ 42 عاما ، فقد قالت إن "معظم البنات اللواتي تتقارب أعمارهن من عمري هن عوانس،فالشباب الذين كان من المأمول ان يكونوا أزواجا لنا هم ضحايا الحروب العراقية."
وتمضى ابتسام لتقول بثقة "أنا جميلة وصاحبة عمل وشهادة ومال ولكن لم يتقدم لي احد، ، العيب ليس في ولكن الشباب المناسب لاعمارنا مفقودون."
ومن جانبها ،قالت سلوى عبد الله التي تبلغ من العمر 40 عاما وهي محامية " كنت أتمنى ان يتقدم لي شخص لاحبه وأتزوجه وأنجب منه أولادا وبنات ، كنت أتمنى أن أقوم بدور الام لكن ها هي السنوات تمر ولا أعتقد أن هناك زواجا ينتظرني."
ولعل الوضع الاقتصادي هو أحد الاسباب الهامة لانتشار ظاهرة العنوسة في العراق فها هي رجاء ربيع المعلمة (44 عاما) تقول "كنت أحب جاري ساهر ..وهو يحبني وهو يعمل نجارا في محل بسيط جدا قوته لا يكاد يكفي يومه."
وتابعت " كان يعمل ليل نهار من أجل تحقيق حلمنا ،حتى اندلعت الحرب واجبره أعوان النظام السابق على الانخراط في الجيش الشعبي وهو ما يعنى غلق المحل وفقد مورد الرزق البسيط."
ومضت رجاء تقول " وبعد انتهاء الحرب أي بعد ثمان سنوات أراد أن يجمع مالا لتوفير نفقات الزواج الا انه واجه واقعا أليما حيث لم يستطع استئجار شقة صغيرة وتأثيثها وأصيب بالاحباط بعد حرب الخليج والحصار المفروض علينا."
وتابعت سرد مأساتها في آسى قائلة "ظل ساهر يجمع المال من اجل الزواج حتى فاته قطار الزواج وبقيت انتظر ان تنصلح احواله المالية حتى فاتني قطار الزواج أنا أيضا".
ومن عوامل ارتفاع معدلات العنوسة بين العراقيات أيضا هجرة الشباب أصحاب الشهادات وزواجهم من الاجنبيات وهذا ما حدث لابتهال باسل وهى ربة بيت (45 عاما) والتى تقول "سافر حميد بعد ان خطبني وهو يحمل شهادة بكالوريوس العلوم الى إحدى دول الخليج بعد أن فشل في الحصول على وظيفة مناسبة في العراق،ومرت السنوات وهو يتنقل من دولة الى اخرى يبحث عن عمل."
ومضت ابتهال تقول "وقبل بضع سنين كتب لي رسالة من سطرين قال لي فيها انه ارتبط بفتاة اجنبية تملك مصنعا وعينته مديرا فيه وإنني حرة من خطوبته."
وتابعت "اصبت في بادىء الامر بصدمة كبيرة ولكن الزمن تكفل بالنسيان."
ومن الامور الاخرى التي تسبب إرتفاع نسبة العنوسة بين العراقيات طلبات الاهالي التعجيزية..وهنا تقول بتول عبد الواحد (50 عاما) المعاونة في مدرسة "مشكلتي تختلف..فقد تقدم لي شباب كثيرون ولكن أهلي كانوا يطلبون منهم طلبات تعجيزية بحجة المستويات المادية حيث كان يطلب ابي من المتقدمين بيتا وسيارة وذهبا فكانوا يهربون من الزيارة الاولى."
وأضافت "وظل أبي يقول لي لا بد وان يتقدم لك في أحد الايام شاب يستطيع تلبية الطلبات وانتظرت حتى أضيف إسمي الى قائمة العوانس وكل ذلك بسبب الطلبات التعجزيزية لابي."
ومما لا شك فيه أن تردى الاوضاع الامنية فى البلاد هو أحد اسباب العنوسة، إذ يقول عصام احمد وهو مهندس يبلغ من العمر 47 عاما إن "الاستقرار النفسي هو احد أساسيات الزواج فأخي قتل مع عروسه في سقوط قذيفة هاون في منطقة الموصل الجديدة قبل ستة أشهر ،وعروس صديقي أحمد قتلت في يوم الصباحية عندما سقطت احدى القذائف على شرفتها."
ومضى عصام يقول "اما جارتنا وداد فقتلت برصاص الامريكان أثناء الزفة وذلك لان القوات الامريكية شكت في الزحام الحاصل على إثر سير السيارات ببطء."
بقي ان أتحدث عن زميلتي داليا رعد النعيمي ذات الثلاث والعشرين ربيعا العروس التي دخلت الى جسدها 3 طلقات اثناء الاشتباكات التى وقعت بين مجموعة مسلحة والقوات الامريكية بينما كانت جالسة في الصالون مع زوجها."
وتسائل بحزن "استشهدت في الحال..وبعد كل هذا تريدون منى الزواج؟!."
وعن الآثار النفسية للظاهرة ، تقول امل عبد الوهاب (38 عاما) وتعمل محللة في مختبر "نحن ايضا من ضحايا الحروب فقد أصيبت بعض العوانس بأمراض نفسية من هول الكبت المخزون في أنفسنا فقد تغافل عنا موكب الزواج وأصبح من الصعوبة علينا الانسجام مع المجتمع."
ويرى بعض المحللين ان العنوسة انعكاس مباشر لزيادة عدد الاناث على الذكور بالاضافة للوضع الاقتصادي السيء وارتفاع معدلات رواتب النساء وحصولهن على شهادات للدراسات العليا دونا عن الرجال الذين انشغلوا في الحروب ولم يكملوا تعليمهم.
ويقولون إن المجتمع برمته يتحمل مثل هذه المسؤولية.
وللدكتورة ندى العبايجي ، وهي استاذة في كلية التربية جامعة الموصل ، رأي في هذه الظاهرة حيث إن "بقاء المرأة بدون زواج حتى سن متأخرة حالة موجودة في كافة المجتمعات ولكن في المجتمع العراقي ،وخاصة في مدينة الموصل، ظهرت في الثمانينات والسبب الرئيسي لهذه الحالة تزايد عدد الاناث عن عدد الذكور نتيجة الحرب العراقية الايرانية التي استمرت ثمان سنوات."
وأضافت " لقد كانت نسبة النساء الى نسبة الرجال متساوية تقريبا قبل الثمانينات وهناك احصائية تشير الى أن نسبة الذكور في العراق كانت 49% ونسبة الاناث 51 % ولكن بعد استشهاد كثير من الرجال في الحروب اصبحت النسبة مختلفة."
وتابعت قائلة " وجدنا أيضا بعد انتهاء الحرب أن كثيرا من النساء كن قد أكملن دراستهن العليا وحصلن على شهادة الماجستير والدكتوراه وبذلك رفضن الزواج ممن هم اقل منهن تعليما وهذا بحد ذاته خطأ كبير."
وأشارت إلى أن هجرة الرجال بحثا عن لقمة العيش خارج العراق زاد من نسبة العنوسة خاصة وأن كثيرين من هؤلاء الرجال تزوجوا من نساء تلك البلدان.
اما عن الحلول المناسبة لهذه الظاهرة فقد قالت الدكتورة ندى العبايجي "هناك حلول قد لاترضي الجميع وغير مقبولة إجتماعيا وهي زواج المرأة ممن هو أصغر منها..والحل الاخر هو الزوجة الثانية فالمرأة المتزوجة لها مكانة في مدينة الموصل اكثر بكثير من العانس فلماذا لاتكون زوجة ثانية."
وأضافت متسائلة " لماذا لا تتزوج المرأة ممن هو دونها تعليما..مالضير من ذلك..انا برأيي انه افضل الحلول."
ومما سبق يتبين أن ظاهرة العنوسة هي إحدى الظواهر التي أبتلى بها المجتمع العراقي بسبب الحروب أولا والوضع المعاشي ثانيا والوضع الامني ثالثا اضافة الى بعض الحالات الغريبة والفردية.